هذه المدونة خاصة بكتابات المفكر واللغوي والمترجم والأديب العراقي عبد الكريم الناصري

الأحد، 10 يوليو 2016

فلسفة ديكارت : أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود - 1

ترجمة تعليق: عبد الكريم الناصري(1)

رنيه ديكارت
ولد "رنيه ديكارت" بإقليم تورين سنة 1596 تلقى علومه الأولى في مدرسة (لافليش) احدى مدارس اليسوعيين وقد أنفق أكثر حياته خارج بلاده . ففي ألمانيا التحق بخدمة الجيش الامبراطوري وفي هولندة نشر (المقالات الفلسفية) التي تشتمل على (المقال في المنهج) (1637) و(التأملات) (1641) و(مبادىء الفلسفة) (1644) ثم دعته الملكة كرستينا وكانت شديدة الاعجاب به الى بلادها السويد حيث توفي عام 1560، وهو العام  الذي نشرت فيه – بامستردام – رسالته (في انفعالات النفس) وبالاضافة الى هذه المؤلفات ينبغي لنا ان نذكر أثرين آخرين مميزين وهما (العالم او رسالة في الضوء) و (رسالة في الانسان او تكوين الجنين) وقد نشرا بعد موته.
لإجل أن نفهم (ديكارت) الفيلسوف، ينبغي ان نذكر انه كان ندا لغسندي، وغليلو ، وباسكال، و نيوتن، وخلفا لفييت، ومؤسسا من مؤسسي الهندسة التحليلية. كان ديكارت رياضيا قبل كل شيء. كان هندسيا (يتذوق) الميتافيزيقا اكثر منه فيلسوفا يميل الى الجبر والهندسة. بل الحق ان كل ما ترمي اليه فلسفته ان تكون تعميما للرياضيات، فإن مطمحه ان يطبق النهج الهندسي على العلم الكلي: أن يجعله منهج الميتافيزيقا. ومقاله (في المنهج) لايدعنا في ريب من ذلك  ففيه يقول " لقد أعجبتني الرياضيات بنوع خاص، لما في براهينها من اليقين والبداهة ، ولكني لم  اكن عرفت بعد فائدتها الحقيقية، ومع أني كنت أحسب فائدتها مقصورة على الصنائع الميكانيكية ، فقد كان يدهشني أن لم يرفع، على أسس لها مثل هذه المتانة والقوة، بناء أعلى" وأيضا "إن تلك السلاسل الطويلة من الحجج التي هي غاية في البساطة والسهولة ، والتي اعتاد اصحاب الهندسة  استخدامها للوصول الى اصعب ما لديهم من براهين، قد حملتني على ان  اتخيل ان كل مايقع تحت متناول العقل مترابط على الوجه نفسه، وأنه إذا حرص المرء على ألا يقبل ماليس بحق على انه حق، وإذا حافظ على الترتيب اللازم لاستنباط حقيقة من اخرى فلن يكون ثمة شيء يبلغ من البعد بحيث لايصل اليه، او من  الخفاء بحيث لايكشف عنه"

ومن هذه الاقوال ، ومن اقوال اخرى كثيرة ، يتضح كل الوضوح أن المنهج الديكارتي عبارة عن تعميم للمنهج الرياضي.
إذن فكيف اتفق ان بات (ديكارت) يدعى مخترع الملاحظة الباطنة، او المنهج النفساني؟

كان ديكارت في حاجة الى مبادىء أولى يقيم عليها سلسلة استنتاجاته،ولقد أمدته الملاحظة الداخلية بمثل هذه المبادىء التي استنبط منها بالطريقة الهندسية (Horegeometrico)  سائر مبادئه وقضاياه. ومن هنا فقد أصاب الذين اعتبروه مؤسس المنهج السيكولوجي، من حيث أن (الاستبطان) هو المرحلة التمهيدية في منهجه العام، ولكنه يخطئون إذا اعتبروا الاستبطان أكثر من توطئة، أو (محالة) مؤقتة ، للاستدلال القياسي الاستنتاجي الذي يكون ولاريب روح (ديكارتية ديكارت).

ولنضف هنا ان ديكارت لا يصطنع الملاحظة الباطنية فحسب، وإنما هو الى ذلك تشريحي وفزيولوجي ضليع (بقدر ماكان ذلك ممكنا في القرن السابع عشر) وهو بهذا الاعتبار يقدر التجربة حق قدرها، ويجب ان يدرس (الكتاب الكبير كتاب العالم ) . فمن الجهل المطبق أن يعارض من هذه الوجهة بـ (بيكن) . وإن احدث مؤرخي (الديكارتية ) ليؤكدون -  وبالحق – أن من المستحيل ان يفصل ديكارت الفيلسوف عن ديكارت العالم .. وكذلك حق (للوضعية) الفرنسية أن تعد في اسلافها، رجلا أراد أن يرد الفلسفة علما مضبوطا: ذلك محور الفلسفة الديكارتية وفكرتها الرئيسية . من المتافيزيقيين ومنشؤه تحصيله الاسكولاتي (المدرسي) فهو رغبته الملحة العجول في ان يستنتج ويصل الى نتائجه، وينظم ويبني نظامه الفلسفي، وهذه الرغبة تمنعه من ان يميز تمييزا كافيا بين منهج البحث العلمي وبين طريقة العرض.
تطبيق المنهج الهندسي على الميتافيزيقا، يقصد ردها علما دقيقا مضبوطا: ذلك محور الفلسفة الديكارتية وفكرتها الرئيسة . والهندسي يبدأ من عدد قليل من البديهيات أو (المتعارفات) والتعاريف أو الحدود، ويصل بالاستنباط الى نتائج مدهشة. وديكارت يتبع هذا المنهج . فإنه يحتاج، أول مايحتاج، الى بديهيات وحدودا وسيرينا القسم الأول من عرضنا هذا كيف يمده التأمل الداخلي، يعينه الاستدلال، بما يريد من ذلك. ثم انه يستنبط من هذه الحدود سلسلة من النائج وهذه ستكون موضوع القسم الثاني.

1- بعد أن يلاحظ ديكارت ان كل مايعرفه أو يظن أنه يعرفه فإنما تلقاه من الحواس ومن المنقولات، وإن الحواس كثيرا ما تخدعنا ، يعقد العزم على الشك في كل شيء، وعلى معارضة العلم النقلي التقليدي بالشك الاساسي العام. بيد انه لا يشك لوجه الشك . لأن شكه، وإن كان أساسيا يتناول الأصول والجذور. فإن وقتي وغايته كسب معرفة يقينية. ومن اجل هذا يختلف ديكارت عن فلاسفة الكنيسة وعن الشكاك "الحقيقيين" معا. فقد كان "المدرسيون" يقولون: آمن لأجل أن تفهم. ولكنه يقول: شك لأجل أن تفهم.
ولقد شك قبله (فوزون) و(سكستوس) و (مونتاين) ولكنهم لم يفلحوا في السيطرة على شكوكهم. لقد تعبوا من البحث عن الحق ، فجعلوا الشك هدفا في نفسه، ونظاما فلسفيا يائسا، أما الشك عنده فليس إلا وسيلة، يسارع الى إهمالها حالما يكتشف حقيقة أولية يقينية . وهذا الموقف، أعني إضافته مبدأ ايجابيا مثمرا الى عنصر النفي والشك والانكار، هو الذي يجعله أبا الفلسفة العقلية الحديثة.
ماهو هذا المبدأ وكيف يكتشفه ديكارت؟ إن شكوكه نفسها تكشف له عنه، فهو يقول : أنا أشك ، هذه حقيقة يقينية بصورة مطلقة، ولكن الشك ضرب من التفكير. إذن فأنا – على اليقين – أفكر. ولكن التفكير يتضمن الوجود.إذن فأنا موجود ولا ريب . أنا أفكر إذن فأنا موجود: كوغيتو ، ارغو ، سوم. Cogito ergo sum
ومع ان ديكارت يستمد جوهر حجته من القديس أغسطين، فإنه يعرضها في صيغة جذابة دقيقة ، تروع العقل وتنتزع موافقته الفورية. والواقع ان الفلسفة الديكارتية مدينة بحظ كبير من نجاحها الى هذه الصيغة الكلاسيكية (أنا أفكر فأنا موجود) بيد أن هذا الشعار الديكارتي ليس استدلالا ومايحب صاحبه ان نعتبره كذلك. وإنما هو حكم تحليلي بسيط وقضية بديهية.

ونحن هنا، إذن ، بإزاء أساس يقيني، نستطيع أن نبني عليه "نظاما" لا يقل عنه يقينا، إذ من البين ان جميع القضايا التي تلزم بالضرورة عن بديهية ما ، يجب ان تكون صادقة صدق تلك البديهية.
أنا حتى الآن لا أعرف إلا اني موجود. وليس في وسعي، بعد، أن أوسع دائرة معرفتي إلا بأعظم العناية والحذر، إذ يجب ان اتذكر دائما ان البداهة، والبداهة وحدها، هي ما احتاج اليه لأستيقن من شيء من الاشياء..
من البديهي أني أفكر وأني موجود، ولكن ليس بالبيّن بداهة ان موضوع تفكيري في الخارج، لأن الطبيعة توهمني أن الشمس تشرق وتغرب، قد تخدعني ايضا، بأن تجعلني أفترض حقيقة الاشياء المحسوسة. وقد تكون أفكاري من نتاج خيالي، وقد تكون الحرارة والبرودة وحتى المرض محض أوهام وتخيلات. أجل لقد كنا خلقاء أن نقلع عن كل محاولة لاثبات نقيض ذلك، وأن نبقى الى الأبد في دائرة اليقين الضيقة، دائرة الـ(أنا موجود لأني أفكر) وان نشك في كل ماعداها، لو لم نجد بين فكراتنا فكرة واحدة لاريب في أن منشأها أجنبي عنا، أعني فكرة الله، او الكائن اللانهائي الكامل.

يتبع

هوامش
 
*نشرت المقالة في مجلة (المعلم الجديد) العراقية في 1946 (وربما 1945)
(1) من كتاب (تاريخ الفلسفة) للعلامة الفلسفي الالماني الشهير ألفرد فيبر Weber  والفصل معرب من الترجمة الانكليزية لفرانك تيلي استاذ الفلسفة  بجامعة كورنل الامريكية ومراجعة رالف بيري استاذ الفلسفة في جامعة هافرد . وقد سبق ان نشرت لي (الرسالة) الغراء اربعة فصول اخرى من هذا الكتاب، وهي عن (برونو) و(كمبانلا) و (بيكن) و(هوبز) انظر الاعداد 645 و 646 و 655 و 656 من المجلة المذكورة – المترجم.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق