الجزء الأول هنا
ترجمة وتعليق: عبد الكريم الناصري
وكون الامتداد يكون ماهية الجسم يستتبع:
وليس هناك الا نوع واحد من الحركة، وهي الحركة في الامتداد او الحركة المكانية او تغير الحيز او (النقلة).
ومع أن الاحساس يبدو كأنه تأثير الجسم في النفس، والحركة الإرادية تبدو كأنها تأثير النفس في الجسم، فواقع الامر غير ذاك، إذ لا يمكن ان يقوم تفاعل او تأثير متبادل بين جوهرين تستبعد صفة كل منهما صفة الآخر.
ترجمة وتعليق: عبد الكريم الناصري
في نهاية الجزء الأول بدأ ديكارت يناقش فكرة (وجود الله) بقوله (فكرة واحدة لاريب في أن منشأها أجنبي عنا،
أعني فكرة الله، او الكائن اللانهائي الكامل) ...
فهذه الفكرة لا يمكن ان تكون نتاج تفكيري، لأن
فكري متناه، محدود، ناقص، ومن البيّن بنفسه ان العلة المتناهية لا يمكن ان تنتج
معلولا غير متناه. أ فتقول ان فكرة (اللامتناهي) محض سلبية؟ بالعكس ! إنها اعظم
فكراتنا كلها إيجابا، انها الفكرة التي تسبق سائر الفكرات، لولاها ما كان يمكن ان
تقوم فكرة (المتناهي) . أتعترض بأن (الأنا) الانساني وإن كان ناقصا (بالفعل) فقد
يكون لامتناهيا (بالقوة) لأنه يسعى الى الكمال، وفي وسعه إذن ان ينتج فكرة الله،
ولكن فكرة الله ليست فكرة كائن كامل بالقوة ، وإنما هي فكرة الكائن اللامتناهي
بالفعل. إنا لا نعزو الى الله كمالا مكتسبا، إن معرفتنا تتزايد وتتكامل شيئا
فشيئا، وقد لا يكون لنموها حد، ولكن لا شيء يمكن ان يضاف الى الله وهو الكائن
المطلق الكامل أبدا. ومن هنا، إذا كانت فكرة الله لا يمكن أن تكون صادرة عنا،
فواجب ان يكون مصدرها الله، وواجب إذن ان يكون الله موجودا بالضرورة .
وأيضا فإن وجود الله يلزم عن فكرة الكائن
الكامل نفسها، لأن الوجود عنصر جوهري من عناصر الكمال، ولولاه لكان الله أشد
الكائنات نقصا، وهذا الدليل، الذي اتى به القديس انسلموس يجعل وجود الله (متوقفا) –
فيما يبدو- على فكرتنا عن الكائن الكامل، ولكن ليس هذا ما يعنيه ديكارت. فما ينبغي
لنا أن نقول: أن عقلي يتصور الله ، لأن الله موجود. فإن الاساس الحق لإيماننا بالله ليس تصورنا إياه – فذاك أساس
(ذاتي) ضعيف وإنما هو الله نفسه، الذي يتجلى لنا في فكرتنا الفطرية عن اللانهاية .
وأما اعتراض من اعترض بأن وجود جبل أو
واد، مثلا، لا يلزم عن التضايف الضروري الوثيق بين فكرة الجبل وفكرة الوادي، فضرب
من المغالطة، فإن كوني لا استطيع تصور جبلا بغير واد، ولا واديا بغير جبل،
لا يستتبع أن هناك جبلا أو واديا بالفعل، وإنما يستتبع أن الفكرتين متلازمتان
لا سبيل الى فصل إحداها عن الاخرى. وكذلك
الشأن في فكرتنا عن الكائن الكامل، فإن كوني لا أستطيع أن أتصور الله إلا موجودا،
يستتبع أن فكرة الله تتضمن وجود الكائن الكامل (2).
أنا أعلم الآن إذن (أولا) أني موجود و (ثانيا)
أن الله موجود.
والتيقن من وجود الله على أكبر جانب من
الأهمية ، فعليه يتوقف كل حق، كل يقين، كل معرفة ايجابية. ومن دونه لا أستطيع أن
أعدو الـ (أنا أفكر فأنا موجود) ، لا استطيع ان اعرف شيئا وراء ذاتي. إن هذا
اليقين يمكنني من تحطيم السد الذي أقامه الشك بين فكري وبين الاشياء الخارجية ..
إنه يعلمني (ثالثا) أن العالم الجسماني موجود، فالله وحده يضمن شيئية فكراتي.
وفكرة الله التي غرسها فيّ هي الدحض الدائم لمذهب الشك. وجملة القول أني ما دمت
أسقط من حسابي فكرة الله، فلي أن افترض أن العالم المحسوس وهم زرقه شيطان خبيث، أو
طبيعة عقلي. فأما بعد ان يثبت وجود الله وانه صانع العالم، فإن هذا الفرض لا يبقى
له موضع، بل يكون من البين حينئذ ان اعتقادي الفطري بوجود العالم يقوم على أساس
متين، لأني إنما استفدته من كائن كامل، أي كائن يمتنع عليه أن يخدع. فالشك بعد
الآن أمر مستحيل. لقد ذهب كل ما بقي لدي من تشكك وارتياب، وحل محله ثقة بالعقل
لا تتزعزع (3).
من الممكن حد الحقائق الثلاث التي برهنا علة
وجودها وهي "الله" و"الانا" و"العالم الجسماني" كما
يلي: فالله هو الجوهر اللامتناهي، الذي يتوقف عليه كل شيء، وليس يتوقف هو على شيء،
والنفس جوهر مفكر. والجسم جوهر ممتد. هذا وأن "الجوهر" هو شيء لا يحتاج
الى شيء آخر لأجل أن يوجد.
2- الملاحظة والاستدلال يكونان أساس النظام
الديكارتي:
وههنا نجد، منذ البداية ، قياسا ينطوي على
عناصر نظام "سبينوزا": إذا كان الجوهر شيئا لا يحتاج الى شيء آخر لأجل أن
يوجد، فيلزم ان الله وحده جوهر بالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ، إنا لا نستطيع أن نتصور
الجوهر إلا على أنه شيء من شأنه أنه لا يحتاج الى شيء سوى نفسه، لأجل ان يوجد. وقد
يكون في قولنا "لا يحتاج الى شيء سوى نفسه" بعض الغموض، لأننا إن طلبنا
الدقة فالله حده مثل هذا الكائن، وما من مخلوق يستطيع ان يوجد لحظة واحدة من غير
أن تحفظه قدرة الله وتبقيه. ولهذا أصابت (المدرسة) حين قالت ان لفظ (الجوهر)
لا ينطلق على الله ومخلوقاته "بالتواطؤ" ومن هنا فالمخلوقات ليست جواهر
بالمعنى الدقيق. إن بعضها جواهر بالقياس الى مخلوقات اخرى، غير انها ليست جواهر
بالقياس الى الله ، لأنها تتوقف عليه.
ومن أجل هذا فإن ديكارت يعني "بالجوهر
النسبي المتناهي" شيئا يحتاج الى الله لأجل أن يوجد، ويعني بالعرض mode ما لايمكن ان يوجد أو يتصور من دون شيء آخر (هو
جوهر ذلك العرض) ويعني بالصفة attribute كيفية الجوهر الماهوية التي لا تستطيع تجريدها
من غير ان تهدم الجوهر نفسه.
والجواهر النسبية نوعان: الارواح (أو العقول)
والاجسام. و(صفة ) العقل أي ماهيته هي الفكر (4) بينما الامتداد يكون (صفة ) الجسم
أو ماهيته.وكون الامتداد يكون ماهية الجسم يستتبع:
1- انه ما ثمة امتداد بغير جسم، أي ما ثمة
مكان خال، ولا ثمة أجسام بغير امتداد، أو (ذرات)
2- وأن العالم الجسماني لاحد له، لان
الامتداد لايمكن ان يتصور ذا حدود (وهنا يناقض ديكارت ارسطو ويتفق مع برونو).
3- وان الجسم، على التحقيق، لا مركز له – أن شكله
بالطبع لامركزي وحركته لامركزية ، ذلك ان المركز نقطة رياضية والنقطة الرياضية غير
ممتدة.
وخواص
الامتداد هي الانقسام، والتشكل ، والحركة – ولكن الانقسام ليس إلا حركة
انفصال واتحاد، إذن فخواص الامتداد وبالتالي المادة ، تتخلص في الحركة .وليس هناك الا نوع واحد من الحركة، وهي الحركة في الامتداد او الحركة المكانية او تغير الحيز او (النقلة).
ثم ان الحركة لا يمكن ان تنشأ في الجسم
المتحرك نفسه، فما يمكن ان يقال ان الجسم يحرك نفسه، يعطي نفسه حركة ويستمر عليها
بدافع من نفسه. لأن الاجسام ممتدة ، ممتدة فقط، حتى في أدق أجزائها، وخالية خلوا
مطلقا من المبدأ الداخلي – مركز الفعل
والدفع الذي تدعوه النفس أو الانا، إنها منفعلة قابلة بالكلية. إنها لا تحرك نفسها
أبدا، وانما تحركها علل خارجية، بل نحن لا نستطيع ان نقول أنها ثقيلة، إن كنا
نفهم الثقل على انه (ميل) في الجسم الى السقوط
نحو مركز الارض، على أنه ضرب من فاعلية تلقائية في المادة.. إن العالم المادي
لا يعرف ناموسا غير ناموس الضرورة، ولقد توزعت المادة – التي اعطاها الخالق منذ
البداية حركة مستقيمة – على هيئة دوامات lourbillons ومنها تكونت
النجوم ثم الكواكب وهي نجوم منطفئة ، ثم الاجرام السماوية الاخرى. إن علم الكون
مشكلة تتصل بالميكانيكا، وليس العالم المادي إلا ماكنة أو آلة .. سلسلة غير محددة indefinite من
الحركات ، مصدرها الله.
على أن من واجبنا الا نخلط اللاهوت بتفسيرنا
للطبيعة، وينبغي لعلم الطبيعة ان يقلع عن طلب العلل الغائية، هذا الطلب الذي عاق
تقدم العلوم.
أما العقول او الارواح فهي تقابل الأجسام على
خط مستقيم. أعني انها في جوهرها فاعلة حرة
، وكما أن الجسم ليس فيه شيء غير ممتد، كذلك العقل ماقيه الا ما هو فكري، ولا ممتد ولا مادي . الجسم هو
كل ما لا يتصف به العقل، والعقل هو النفي المطلق لكل ما يتصف الجسم به. إن هذين
الجوهرين يستبعد أحدهما الآخر استبعادا تاما، ويقابله مقابلة مطلقة (ثنائية الجوهر
، الروحية الثنائية)ومع أن الاحساس يبدو كأنه تأثير الجسم في النفس، والحركة الإرادية تبدو كأنها تأثير النفس في الجسم، فواقع الامر غير ذاك، إذ لا يمكن ان يقوم تفاعل او تأثير متبادل بين جوهرين تستبعد صفة كل منهما صفة الآخر.
الانسان كائن مركب من جسد ونفس. فالنفس تستمد
فكراتها المحسوسة من طبيعتها هي، بمناسبة انفعالات جسمية تناظر تلك الفكرات، أما
الجسم فآلة ذاتية Automatonتتفق حركاتها مع المشيئات النفسية. كلا النفس والجسم يحيى حياة مستقلة، فالجسم
خاضع للضرورة ، والنفس ذات إرادة حرة ، وهي لاستقلالها عن الجسم تبقى بعد اندثاره.
إن الجزأين اللذين يكونان الكائن الانساني
هما متضادان الى حد أن من المحال ان يحصل بينهما اتحاد حقيقي.
وفي هذا المعنى يقول ديكارت من رسالة له الى
الأميرة اليزابيث : "إن الذين لا يتفلسفون ابدا، بل يستعملون حواسهم وحدها، لايشكون
في ان النفس تحرك الجسم وان الجسم يؤثر في النفس ، ولكنهم يعتبرونهما شيئا واحدا
بعينه. أعني يتصورونهما متحدين، لأن تصور الاشياء متحدة معناه تصورها شيئا واحدا
بعينه " فإذا اعترضت الاميرة بأن التأثير المتبادل بين النفس والجسم واقعة
بينة بنفسها ، وأن اضافة الامتداد الى النفس أيسر من تكذيب هذه الواقعة، أجاب
ديكارت "أرجو من سموك ان تتفضلي فتضيفي المادة والامتداد الى النفس، او بعبارة
اخرى ان تتصوريها متحدة بالجسم. فإذا تصورتها على هذا النحو، واختبرت التصور في
نفسك ، لم يعسر عليك ان تلاحظي ان المادة المضافة الى الفكر ليست فكرا، وأن امتداد
هذه المادة يختلف تماما عن امتداد الفكر، فإن الاول يرتبط بحيز ما، ويستبعد منه
امتداد الجسم، وليس كذلك الشأن في الثاني، وعلى هذا الوجه يسهل على سموك ان تفهمي
فرق ما بين الجسم والنفس رغم ان سموك
تصورتهما متحدين"
بيد أن هذه النظرية لا تمنع ديكارت من ان
يتحدث عن تفاعل الجسم والنفس كما لو كان هذا التفاعل حقيقيا ومباشرا، فإن نظريته
الانثروبولوجية (5) تفترض في كل جزء من اجزائها ما ينكره مذهبه الميتافيزيقي، فهو
يذهب هنا – خلافا لأقواله الصريحة المقتبسة آنفا – الى ان النفس متحدة بكل اجزاء
البدن، وأنها تؤدي وظائفها في الغدة الصنوبرية على الاخص، وان النفس والجسم
يتفاعلان عن طريق هذه الغدة و (الارواح الحيوانية) على انه لا يذهب الى حد اعتبار
(الجوهرين) جوهرا واحدا. ور(رسالته في الانسان وتكوين الجنين) تشير الى فرق
ما بينهما فالجسم يمشي ويأكل ويتنفس والنفس تلتذ وتتألم وتشتهي وتجوع وتعطش وتحب
وترجو وتخشى وتدرك فكرات الصوت والضوء والشم والذوق المقاومة وتفيق وتحلم ويغمى
عليها. ولكن جميع هذه الظواهر نتائج او عواقب – لامعلولات – لحركات يثيرها في مسام
الدماغ – الذي هو مستقر النفس – دخول وخروج الارواح الحيوانية . ولولا الجسم –
ولولا الدماغ منه خاصة – لاختفت هذه الظواهر جميعا، وكذلك الذاكرة الحافظة لها،
ولما بقي للنفس شيء إلا تصور بضع فكرات محضة، فكرات الجوهر والفكر والمكان واللانهاية
– وهي فكرات مستقلة بالكلية عن الاحساس . ثم ان الفكرات التي تحتاج الى معونة
الحواس وبالتالي الدماغ، تختلف كل الاختلاف عن الموضوعات التي نظن ان تلك الفكرات
تمثلها .. الفكرة لا مادية ، والموضوع مادي، فالفكرة إذن تضاد الموضوع، حتى وإن
كانت صورته الأمينة. إن فكراتنا عن الكيفيات (الاوصاف) المادية لا تشابه الموضوعات
إلا كما يشابه الالم الابرة التي تبعث عليه، أو كما تشابه الدغدغة الريشة التي
تحدثها.
نرى من ذلك أن مؤسس الفلسفة الفرنسية ، وإن
كان (عقليا) وروحيا من حيث المبدأ النظري ، فإنه يقترب في الواقع من التجربة
والمادية .. ومع أنه (توكيدي) في اعتقاده ان الامتداد حقيقة شيئية Reality فإن فلسفته تومئ مقدما الى لوك وهيوم وكانت،
وذلك في تمييزها الصريح المطلق بين الكيفيات المادية وبين أسبابها الخارجية.
--
الهوامش
(2) في الواقع أن شأن الدليل النطولوجي كشأن
(الكوغيتو) إنه ليس استدلالا بل حقيقة بديهية يقينية تدركها النفس مباشرة- المترجم
(3) قارن هذه الفقرة بما جاء في كتاب
(ديكارت) لعثمان أمين ، ص 233-234 من قوله "أعلم الآن علم اليقين حقيقتين :
أعلم اني موجود، وأعلم أن الله موجود ...) الى قوله "... ثقة بالعقل
لاتتزعزع"- التشابه يلفت النظر. ولكن الدكتور عثمان أمين لم يجد ما يدعوه الى
الإشارة الى مصدره.
(4) الفكر عند ديكارت تعبير عام يشمل الفهم
والارادة والتخيل وحتى الوجدان والعاطفة – المترجم
(5) خصوصا كما يصوغها في رسالته (في انفعالات
النفس)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق