نشرت المقالة في مجلة (عالم الغد) العراقية في خريف 1948، ثم اعيد نشرها في (الأهالي) في 1961 بمقدمة مزيدة.
ترجمة: عبد الكريم الناصري
مقدمة
المترجم ( وصف "نيتشة" كتاب اكرمان "أحاديث مع غيته"
بقوله "إنه أحسن كتاب في الألمانية " وبذلك يكون الفيلسوف الكبير قد وضع
هذا الكتاب – الذي سجل فيه شاب لا شأن له ولا موهبة في الظاهر، أحاديث غيته – لا
فوق كل ماكتب في الألمانية من فلسفة وأدب وعلم حسب، بل وفوق كل ما أنتجه الشاعر
العظيم نفسه من روائع الآثار خلال نصف قرن.
![]() |
اكرمان |
وقد نقلت هذا الحديث عن الترجمة الإنكليزية لجون اوكسنفورد(*) توخيت في الترجمة الدقة والامانة قبل كل شيء ولم التفت الى أي اعتبار وراء ذلك إلا عرضا.- المترجم (مقدمة الترجمة في عالم الغد)
+++
(فيما يلي مقدمة إضافها المترجم الى المقدمة
أعلاه والنص حين اعاد نشره في (الأهالي) عام 1961)![]() |
غوته |
كان غيته أعظم شخصية فكرية في اوربا لعهده وقد أحدث ثورة عظيمة في الفكر الالماني الاوربي. وكان بيته مقصد أكابر رجال الفكر. ومن جملة الذين زاروه في فايمار الفيلسوف هيغل . وكان شوبنهاور الشاب صديقا له . ولم يتفق لكاتب من الكتاب ان تحدث عنه بغير لهجة التعظيم والتوقير، وعندما مات، كتب الكاتب الانكليزي الشهير توماس كارلايل – وهو المسؤول عن إشهار أمره بين قومه الإنكليز – تأبينا مؤثرا جدا استهله بقوله "مات أبي" .
وكان مظهره مطابقا لمخبره، فقد كان مهيب الطلعة . ويروى في ذلك أن أحد الفلاحين كان جالسا القرفصاء فمر به غيته. فما أن شاهده الفلاح الذي لم يكن يعرفه حتى هب قائما، تجلة له.
يلفظ اسم غيته هكذا على التقريب: جيم مصرية تمثلها الغين ثم ياء كياء – بيت- كما تلفظ في الحديث الدارج. انا قد سبق ان اقترحت ان يرسم الصوت الأول بجيم معجمة بنقطتين. المترجم.
+++
الخميس 2 نيسان 1829
قال "غيته" اليوم على الغداء:
"سأبوح لك بسر لن يلبث عاجلا أو آجلا أن
يعلن للناس. إن "كابوديستريا" (1) لن يبقى طويلا على رأس الحكم في
اليونان، لأنه يفتقر الى صفة لايستغنى عنها من يكون في مثل مركزه: إنه ليس بجندي،
ولم يسبق قط أن استطاع سياسي محض تنظيم دولة ثورية، واخضاع الجيش وقادته لسلطانه.قد يستطيع الرجل بيده السيف، وتحت إمرته الجيش، أن يأمر ويشرع، واثقا من طاعة الناس له، فأما من دون ذلك فالمحاولة محفوفة بالأخطار. ولو لم يكن نابليون جنديا لما وسعه أن يبلغ السلطة العليا.ومن أجل هذافإن كابوديستريا لن يحتفظ بالمكان الأول طويلا، وإنما مصيره أن يلعب دورا ثانويا عما قريب. إني اقول لك هذا من الآن وسوف تراه يقع. إنه شيء مستقر في طبيعة الأشياء ولا مفر من حدوثه."
وبعد ذلك تحدث "غيته" كثيرا عن
الفرنسيين ، ولا سيما ، (كوزان) و(فيلمان) و(غيزو) (2) ومما قاله:
"إن هؤلاء الرجال ينظرون في الغرض subject من الأغراض، ومن خلاله ، ومن حوله، بنجاح عظيم ،
إنهم ليجمعون بين المعرفة الكاملة بالماضي وبين روح القرن التاسع عشر، والنتيجة
مدهشة"
ثم تطرقنا الى أحدث شعراء فرنسا والى معنى
كلمتي "كلاسيكي" و "رومنسي" فقال:
"لقد خطر في بالي تعبير جديد يحدد الوضع
تحديدا غير سىء. إني أدعو الكلاسيكي بالصحيح والرومنسي بالمريض، وعلى هذا تكون
قصيدة الـ Nibelungenlied
(3) كلاسيكية كالألياذة إذ كتلاهما قوية، صحيحة ، ومعظم المنتجات الحديثة رومنسية،
لا لإنها جديدة ، بل لأنها ضعيفة ، سقيمة، معتلة. والآثار القديمة كلاسيكية ، لا
لإنها قديمة ، بل لأنها قوية ، غضة، فرحة، سليمة.
وإذا نحن ميزنا بين الكلاسيكي والرومنسي بهذه
الصفات ، سهل علينا أن نرى طريقنا."
وبعد ذلك دار الحديث على حبس
"بيرانجيه" فقال غيتة:
"حسنا فعلوا به! فإن قصائده الأخيرة
منافية لكل نظام. وقد استحق عقوبته تماما، بما أساء الى الملك والدولة وواجبات
المواطنة الهادئة، وقد كانت قصائده الأولى ، على الضد من ذلك، قصائد مبهجة غير مؤذية
، وكانت ملائمة لإشاعة المسرة والسعادة في نفوس الناس، وهذا في الواقع هو خير
مايمكن ان توصف به "الأغاني".
قلت:" من المحقق عندي أن المجتمع الذي يعيش فيه قد أثر
فيه تأثيرا سيئا، وأنه لأجل أن يرضي أصدقاءه الثوريين، راح يقول أشياء ماكان
ليقولها لولا ذاك. إنه لينبغي ، ياصاحب السعادة ، أن تحقق ما كنت انتويته من كتابة
فصل عن (التأثيرات) . إن هذا الموضوع يزداد أهمية وغنى ما أطلنا الفكرة فيه؟"
قال غيته:" بل هو مفرط الخصب والغنى. إذ
الحق أن كل شيء تأثير(مؤثر) ،إلا
أنفسنا"
قلت:" ماعلينا إلا أن نتبين التأثير من
التأثيرات ، هل هو نافع أم ضار – هل هو ملائم لطبيعتنا أم ناف لها"
فقال:" تلك هي المشكلة حقا. ولكن موطن
الصعوبة أن يثبت الجانب الخير من طبيعتنا بعزم وقوة، ويحافظ على كيانه، ولا يبيح
للشياطين demons فوق ماينبغي لهم."
وعندما قدمت الفاكهة والحلوى، وضع على
المائدة أمامنا – بأمر من غيته- غصن غار، وافر الزهر، ونبتة يابانية . فأشرت الى
ماتبعثه النبتتان في النفس من مشاعر متباينة: فمرأى الغار يحدث حالة نفسية مستبشرة
، منطلقة ، وديعة، مطمئنة . أما مرأى النبتة اليابانية فيثير في النفس حالة اكتئاب
بربري.
قال غيتة:" لستَ مخطئا في هذا. ومن أجل
ذلك اعترف للنباتات التي تنمو في بلد ما بتأثير كبير في سكانه. ومن المحقق أن الذي
ينفق حياته محاطا بأشجار السنديان الباسقة الوقور لابد من أن يكون إنسانا مختلفا
عمن يعيش بين أشجار التبولا الطلقة
الرشيقة..
ولكن لنذكر أن الناس على العموم ليس لهم مثل
مالنا من طبائع حساسة، وإنما هم يواصلون مسيرتهم
في الحياة (4) من غير تلكؤ، ومن غير ان يدعوا للانطباعات الخارجية كبير سلطان
عليهم. ومع ذلك فليس من شك في هذا: وهو أن خلق الشعب من الشعوب لا يتكون من خصائص
العنصر الفطرية فقط ، وإنما يتكون أيضا من
اجتماع عوامل التربة والمناخ والقوت والحرفة. يضاف الى ذلك أن الأقوام
البدائية كانت في أغلب الأحوال تستولي على
الأرض التي تروق لها. ومن هنا كان الإقليم الذي يقع عليه اختيارها منسجما من البداية مع شخصيتها
الفطرية"
ثم قال:" ... وراءك على المكتب ورقة أحب
أن تنظر فيها"
قلت:" هذا الظرف الأزرق؟"
قال:" نعم . ماقولك في الخط؟ ألا تراه
خط رجل كان يحس في قرار نفسه بالنبل والحرية، وهو يكتب العنوان؟ من هو في رأيك صاحب
هذا الخط؟"
وقد استرعت الورقة انتباهي، إذ كان الخط
طليقا جليلا حقا.
قلت:" إن (ميرك)(5) كان خليقا أن يكتب
هكذا..
فقال:" كلا! إنه لم يكن نبيلا وإيجابيا
الى هذا الحد. إنها من تسيلتر (6). وقد وفق - في كتابة هذا الغلاف - الى قلم وورق
ملائمين، حتى اصبحت الكتابة تعبر عن خلقه
العظيم أتم تعبير. إني سأضيف هذه الورقة الى مجموعتي من التوقيعات الخطية.."
+++
(*) الكتاب عنوانهConversations
of Goethe with Eckermann & Soret- translated by John Oxenford- V.II- London
– Smith, Elder & Co.- 1850
وموجود على الانترنيت
للتحميل والقراءة في هذا الرابط - بثينة
(**) ايضا لابد من ذكر
دراسته وتأثره باللغة العربية واستلهامها
في واحدة من أروع أعماله "الديوان
الغربي والشرقي" والذي ظهر فيه تأثره بالفكر العربي والفارسي والإسلامي، ولعل
غوته هو أول شاعر أوروبي يقوم بتأليف ديوان عن الغرب والشرق مجسداً قيم التسامح والتفاهم
بين الحضارتين، هذا بالإضافة للعديد من المؤلفات القيمة الأخرى. مما قاله غوته في وصفه
للغة العربية " ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة
والخط مثلما حدث في اللغة العربية، وإنه تناسق غريب في ظل جسد واحد"، وقد عكف
غوته على دراسة الشريعة الإسلامية دراسة متعمقة، وأطلع على الأشعار والملاحم العربية
وتأثر بعدد من الشعراء مثل المتنبي، وقام بإدراج بعض من ملامح أشعاره في روايته
"فاوست"، كما تأثر بأبي تمام، والمعلقات السبع فقام بترجمة عدد منها إلى
اللغة الألمانية عام 1783 م بمساعدة معلمه هيردر، وقرأ لفحول الشعراء مثل امرؤ القيس،
طرفة بن العبد، عنترة بن شداد، زهير بن أبي سلمى وغيرهم، وكانت للأشعار والمفردات العربية
تأثير بالغ على أشعار وأدب غوته – بثينة نقلا عن وكيبيديا
______________________
هوامش
(1) الكونت جيفاني انتونيو كابوديستريا –
رئيس الجمهورية اليونانية الانقلابية لذلك
العهد- المترجم
(2)كان غيته كثيرا مايقرن بين هؤلاء النوابغ
الثلاثة في أحاديثه : الأول (فكتور كوزان)
هو مؤسس الفلسفة الروحية الوفاقية في فرنسا ، والثاني (آبيل فرانسوا فيلمان) ناقد
أدبي، والثالث (فرانسوا بييرغيوم غيزو) مؤرخ معروف – المترجم
(3) أي "انشودة النيبلنغيين" وهي
ملحمة ألمانية قديمة يعتز بها الألمان وهي
عندهم كالألياذة عند اليونان.- المترجم
(4) الجملة الاصلية حسب ترجمة أبي كانت
(يمضون لطيتهم في الحياة) وقد استبدلتها بجملة (يواصلون مسيرتهم في الحياة) كونها
أسهل فهما في وقتنا الحاضر.- بثينة
(5) لعله
يشير الى ارنست ميرك رجل اعمال وسياسي ألماني Freiherr Ernst Merck (20 November 1811 – 6 July
1863) - بثينة
(6) لعله يشير الى كارل فريدرك تسيلتر- موسيقار
ومعلم موسيقى الماني مشهور Carl Friedrich Zelter (11 December، 1758 –
15 May 1832)
.- بثينة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق