بقلم: عبد الكريم الناصري*
من أوهام (انستاس
الكرملي) حسبانه أن للفعل اللاتيني ( sere)
صلة بالفعل "زرع" ومقصدنا الراهن أن نكشف عن هذا الوهم ، وسنكشف في
مقالات تالية عن أوهام له أخرى، ولكن مقصدنا الأخير أبعد جدا مما عسى أن يبدو
للقارىء أول وهلة.
قال الكرملي في كتابه "نشوء اللغة ونموها واكتهالها"** "هذا فعل (يعني "زرع") ويقابله في الرومية فعل أيضا هو ( serere)، فإذا حذفنا من آخره علامة الفعل عندهم يبقى ( sere) ، وقد علمنا سابقا أن أحرف الحلق تسقط كلها من كلام أبناء الغرب، وقد ناب هذا الحرف (s) فصارت (سري) بالسين في الأولى، إذ الزاي تلفظ عندهم وتصور سينا، كما هو معهود عند عارفي لغات الغرب، إذن تحولت (زرع) بصورة (سري) وهذا ظاهر..."
ولهذا الفعل نظائر في جملة لغات هندية – اوربية ، ففي الاسلندية (se ) وفي القوطية (saian) وفي الألمانية saen ، وفي الانكليزية القديمة sawan وفي الانكليزية الحديثة sow وفي اللتوانية seti وفي الروسية sieiato : زرع، بذر . ومرد جميع هذه الألفاظ الى الجذر الآري (sa). وهو جذر "زرع".
ويقال مطر ثر أي واسع القطر غزيره ، وثرثر يقال ثرثر الشيء "بدده" و ثرثر الكلام : كثيره في تردد وتخليط فهو "ثرثار"
--------------
يتبع في الجزء الثاني هنا
* نشرت المقالة في صحيفة (الاهالي) العراقية - 23 تشرين اول 1952 بعنوان (تأصيل فعل عربي وآخر لاتيني)
![]() |
الأب انستاس الكرملي |
قال الكرملي في كتابه "نشوء اللغة ونموها واكتهالها"** "هذا فعل (يعني "زرع") ويقابله في الرومية فعل أيضا هو ( serere)، فإذا حذفنا من آخره علامة الفعل عندهم يبقى ( sere) ، وقد علمنا سابقا أن أحرف الحلق تسقط كلها من كلام أبناء الغرب، وقد ناب هذا الحرف (s) فصارت (سري) بالسين في الأولى، إذ الزاي تلفظ عندهم وتصور سينا، كما هو معهود عند عارفي لغات الغرب، إذن تحولت (زرع) بصورة (سري) وهذا ظاهر..."
إنا، إكراما لذكرى
الكرملي، نرى أن لانعلق على هذا "الكلام" بشيء.
قال الأب انستاس
:" والذي نلاحظه أن كلمتنا واصولها تبقى على حالها، وإن اختلفت مشتقاتها، من زارع ومزروع وزرع (إسما
ومصدرا) ومزرعة الى آخر ماعندنا. وأما الرومان فقد قالوا في أزرع (أنا) سيرو sero وفي زرعت سيفي seve ومزروع ساتم satum والزرع
مصدرا: سيري أو سارارا بإمالة الألف أي serere والزرع اسما (سمن semen ) والمزرعة
سميناريوم seminrium . فأي اختلافات وقعت في (أصل الكلمة) العجمية ،
وابتعاد مشتقاتها عنه، وتشتت أحرف ذلك الأصل ! بينما نرى أحرف أصل (زرع) الأولية
باقية في جميع فروعها. ولهذا كانت لغتنا أقرب الى الأصل من سواها"
الكرملي يتحدث عن
الفعل "زرع" على أنه "الأصل" الذي اشتق منه "زارع" و"مزروع"
الخ. ثم يتحدث عن "أحرف أصل – زرع- الأولية"! ثم يردف ذلك بقول
مبهم"ولهذا كانت لغتنا أقرب الى الأصل" (أي أصل؟) من (سواها) ...!
إن الجذر أو الرس (root) اشتق منه
الفعل (زرع) باللغة الرومانية هو (sa) لا (sere)ولهذا الفعل نظائر في جملة لغات هندية – اوربية ، ففي الاسلندية (se ) وفي القوطية (saian) وفي الألمانية saen ، وفي الانكليزية القديمة sawan وفي الانكليزية الحديثة sow وفي اللتوانية seti وفي الروسية sieiato : زرع، بذر . ومرد جميع هذه الألفاظ الى الجذر الآري (sa). وهو جذر "زرع".
إن جميع الألفاظ
الثلاثية، في اللغات "السامية" قد تطورت عن ألفاظ ثنائية الحرف، أحادية
المقطع ، أعني من ألفاظ مؤلفة من حرفين، أحدهما متحرك وثانيهما ساكن، فالأفعال
التالية مثلا: همي، همع، همر، همل ، قد تطورت عن "الثنائي" (هَمْ) بفتح
فسكون. والثنائي يتحول الى ثلاثيات بإضافة حرف ثالث إما على أوله، وإما على آخره،
وإما في وسطه. فمن "قطْ" مثلا (بتسكين الطاء) نشأت الأفعال (قطّ) بتشديد
الطاء، و(قطع) و (قطر) (فقط) و(رقط) و(قرط) الخ، وهذه الثلاثيات تشترك في معنى
عام، هو "معنى" الثاني نفسه، ويختلف أحدهما عن الآخر، وعنه، بزيادات
معنوية ترد مداليلها تفريعات وتنويعات للمعنى العام.. قارن مثلا فكرة (القطع)
العامة التي ينطوي عليها الثنائي (قط) بمعاني الكلمات الآتية المشتقة من الأفعال
الثلاثية التي مر ذكرها "نقظة" "قطرة" "رقطة" .
يقال نمر أرقط وحية رقطاء، و"قطعة" إن الثنائي (قط) هو
"الجذر" الذي تطورت عنه، خلال الزمان، هذه الثلاثيات وثلاثيات اخرى
كثيرة . إن هذه حقيقة قد تنبه لها أجدادنا منذ قرون.
على أن هناك عاملا
أساسيا آخر في تطور اللغات، هو عامل "الإبدال" أي تحول حرف الى آخر، من
نفس مخرجه، أي من مخرج مقارب لمخرجه، بل قد يكون بعيدا عنه.
والآن ماهو
"جذر" الفعل "زرع"؟ هل هو "زر" أم "زع"
أم "رع" (بتسكين الحرف الثاني). إنه ولاريب "زر" بدلالة
الثلاثيات التالية المشتقة منه ومن صورته الإبدالية "ذر" (بتسكين
الراء).
- بزر أي بذر ومنه
"البزر" كل حب يبذر
- بذر الحَب :
ألقاه في الارض وزرعه. وبذر المال : فرقه إسرافا، وبذر العلم : بثه ونشره
- ذر : رش ، نثر،
بذر
- "ذرا"
و"ذرى" (تذرية) و "أذرى" يقال ذرت الريح التراب، وأذرته،
وذرته (بتشديد الراء) : اطارته وفرقته. وذر
الحنطة : قاها في الريح، وأذرى الشيء: ألقاه كما يلقى الحب للزرع.
وفضلا عن
"زر" و"ذر" اعني هاتين "الصورتين" لجذر واحد، ثَم
صور اخرى : "ثر" و"شر" بل و"تر" ومشتقاته تفيد معنى
الانتشار والانتثار ثم الاتساع ثم الامتلاء : فمن "ثر الشيء " اتسع ،
وثر السحابة او العين ، غزر ماؤها فهي ثرة وثرور (الفعل غزر من "زر"
الذي منه زرع وبزر) ويقال مطر ثر أي واسع القطر غزيره ، وثرثر يقال ثرثر الشيء "بدده" و ثرثر الكلام : كثيره في تردد وتخليط فهو "ثرثار"
- نثر : نثر الشيء
: رماه متفرقا، وانتثر وتناثر الشيء : تساقط متفرقا.
- "ثرا"
و"اثرى" : كثر ماله .
ومن
"شر" : شر (بتشديد الراء) يقال: شر الثوب في الشمس: اي نشره ليجف.
ومن الثنائي
"شر" بتسكين الراء: "نشر" ومنه أيضا "شَهَر" الذي
منه "مشهور" ومنه "شرح" الكتاب: أظهره برمته وبيّنه.
ومن
"تر" "ترع" ثم "أترع" : إناء مترع: اي مليء.
وحين نقول إن
"ذر" و"زر" و"ثر" و"تر" و"شر"
صور لجذر واحد قد لايكون هذا القول بهذا التفصيل، صحيحا كل الصحة، إذ يجوز أن
يكون "ثر" المضاعف (اي المشدد الآخر) مثلا مبدّلا من "ذر"
المضاعف، وأن يكون "نثر" مبدلا من "نشر" ولكن إذا قيل بوجه
عام، إن الرس من الأرساس قد يتخذ أكثر من صورة واحدة، لا في لغات مختلفة فقط، بل
في هذه اللغة الواحدة كان هذا القول صحيحا.
مما تقدم يتضح أن
ليس ثمة علاقة بين sere و(زرع) . لقد انخدع الكرملي، وكثيرا ما كان
ينخدع، بالشبه اللفظي والمعنوي الظاهر، بيد أن انكارنا لوجود صلة بين الفعل
اللاتيني المذكور والفعل "زرع" ليس معناه أننا ننكر وجود صلة بينه وبين
اللغة العربية واللغات السامية الاخرى.
إنا – بضد ذلك –
نقرر وجود صلة عميقة بينه وبين ألفاظ عديدة ، في هذه اللغات. إنها صلة جذر بجذر .
جذر (آري) بجذر (سامي) أعني: صلة الجذر الهندي اوربي sa الذي تقدمت الاشارة اليه وبالجذر العربي السامي
"شع"
إنها صلة الهوية ،
صلة الوحدة ، صلة الشيء بنفسه، لأن (سا) و(شع) صورتان لرس واحد.
معنى sa : بذر ،
نثر، نشر. وفكرة النشر والانتشار أعم من فكرة البذر والزرع وأعم منهما فكرة
"السعة" وبين كل هذه الفكرة صلة معنوية بديهية.--------------
يتبع في الجزء الثاني هنا
* نشرت المقالة في صحيفة (الاهالي) العراقية - 23 تشرين اول 1952 بعنوان (تأصيل فعل عربي وآخر لاتيني)
** صفحة 57 من طبعة
(المطبعة المصرية) الفجالة – 1938
يمكن
قراءته وتحميله من الانترنيت في هذا الرابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق