هذه المدونة خاصة بكتابات المفكر واللغوي والمترجم والأديب العراقي عبد الكريم الناصري

الجمعة، 3 يونيو 2016

التدبيرية والتدبرية

بقلم: عبد الكريم الناصري*

"التدبيرية" هي ترجمتنا الشخصية لبراغماتيزم وهو اسم الفلسفة الامريكية المعروفة التي وضع بيرس Pierce  مبدأها العام ، والتي يعتبر وليم جيمس أبرز روادها ودعاتها قاطبة، و(التدبرية ) هي ترجمتنا لبراغماتسزم وهو الاسم الذي اطلقه بيرس على مذهبه خاصة، تمييزا له عن مذاهب التدبيرية الأخرى.
وهذا المصطلح الثاني لم يترجم فيما اعلم ، أما الأول فقد ترجم بفلسفة الذرائع، وبالفلسفة العملية وبالفعلية وبالتشبثية . وكل هذه الترجمات تعوزها الدقة.
++
والنعت الإنكليزي براغماتك pragmatic  يوناني الأصل ، ومعنى براغمايتكوس في اليونانية : فعلي وبارع في تدبير الشؤون العامة، وقد انتقل هذا اللفظ الى اللاتينية ومنها الى لغات حديثة مختلفة.
وهو من الفعل : براسو، أي عمل، ومنه في اليونانية ايضا براكتكوس، اصل براكتيك في الفرنسية القديمة ، اصل براكتس في الانكليزية : عمل ، ممارسة . وبراكتكل : عملي، ومنه اسم الفلسفة العملية المقابلة للفلسفة النظرية.
 ومعنى البراغماتزم أو الفرمطيقية العام: النظر الى الأفكار على أنها وسائل الى غايات عملية. و (التدبير) يفيد معاني النظر والعمل و"طلب النتائج" في آن واحد، فإن قولنا: دبر الأمر، معناه : تفكر فيه ونظر في أدباره أي عواقبه، وأيضا "نظمه واعتنى به" ومن هنا "التدبير المنزلي" و"التدبير الإلهي" و"سياسي ذو تدابير" .
هذا لغة، أما اصطلاحا، فإن "التدبيري" هو اللفظ الوحيد الذي يصلح ترجمة للنعت الفرنجي أي براغماتيك، أو الفرغمطيقي، كما استعمله الفيلسوف "كانت" في "نقد العقل الخالص" وحدده في "المبادىء الاساسية لميتافيزقيا الأخلاق"
ففي الكتاب الأول (1) يميز بين العقيدة الاخلاقية والعقيدة الفرغمطيقية بقوله أن الثانية ليست مطلقة كالألهى ، وإنما المراد بها اتخاذها اساسا لاستخدام الوسائل استخداما فعليا بغية تحقيق غايات بأعيانها، ويسوق لذلك مثل الطبيب الذي يرى مريضه في حالة خطرة ولابد له من علاج عاجل، فإنه بعد أن يلاحظ الاعراض يستنتج ان المريض مصاب بمرض بعينه. إنه لا يرى اعتقاده هذا حقيقة مطلقة، ولا ان غيره لايستطيع ان يشخص المرض خيرا منه، بيد أنه مضطر الى تحقيق غاية عملية ، هي انقاذ المريض فلابد له إذن من اتخاذ اعتقاده مبدأ العمل.

وفي الكتاب الثاني (2) تحديد ضمني لمعنى اللفظ وآخر صريح ومجمل مايقوله هنا: إن الفرغمطيقي يرادف (برودنشل prudential) و (بروفدنشل providential) بحسب الترجمة الانكليزية وكلا النعتين مشتق من الفعل اللاتيني (بروفيديو provideo) المركب من سابقة معناها (قبل) او مقدما وفعل معناه (رأى، نظر الى المستقبل) والمعنى المركب (رأى مقدما)، اي تبصر، تدبر، احتاط للمستقبل، فمعنى النعت إذن: تدبيري ، تدبري. ويقول كانت ان هذا هو أدق تعريف للمصطلح، ثم يضيف " بأن التاريخ من التواريخ انما يوصف بهذا الوصف ، اي بكونه فرغمطيقيا إذا علم الناس التدبير (برودنس) أي إذا علمهم كيف يحتاطون للمستقبل ويأخذون الاهبة له خيرا من الذين سبقوهم او مثلهم على الاقل
وفي موضع آخر يقول أن التدبير في أضيق معانيه هومهارة المرء في اختيار الوسائل المؤدية  الى تحصيله أكبر خظ من السعادة . (3)

وقد تقدم أن النعت مشتق من فعل معناه: عمل في حين ان ترجمتنا له ، أي (التدبيري) مشتقة من فعل يدل في نفسه على النظر والعمل واختيار الوسائل تحقيقا لغاية، فالتدبيري إذن ليس ترجمة دقيقة للمصطلح فحسب، بل إنه أدق منه عبارة ع المعنى المطلوب. ثم ان هذه الترجمة تتشيد بنصوص من تراثنا الفلسفي حيث نجد "التدبير" يستعمل مرادفا "للعمل" عند الكلام على الفلسفة العملية وأقسامها. اكتفي هنا بمثال واحد ، وأحيلك على آخر.
في "مفاتيح العلوم" للخوارزمي:" وإما الفلسفة العملية فهي ثلاثة اقسام، احدها تدبير الرجل نفسه أو واحدا خاصا، ويسمى علم الاخلاق. والقسم الثاني تدبير الخاصة ويسمى تدبير المنزل ، والقسم الثالث تدبير العامة ، وهو سياسة المدينة والامة والملك" وانظر ايضا (ص – 230) من رسالة ابن سينا في اقسام العلوم العقلية ، من مجموعة رسائله المطبوعة في المطبعة العلمية بمصر، ففي كلامه على الفلسفة العملية ، يتردد الفعل (دبر) ومشتقاته، كما ان كلامه يتضمن معنى تدبير المرء امور فسه او غيره طلبا للسعادة.

+++
إن بيرس كما سبق القول ، هو اول من قرر مبدأ التدبيرية في صورته العامة كما يلي:

"لإجل ان نتثبت من معنى التصور من التصورات العقلية (أي المفهوم من المفاهيم) ينبغي لنا أن نقدر النتائج العملية التي يمكن ان تنشأ بالضرورة عن صدق التصور ، فمجموع تلك النتائج ينتظم كل معنى التصور"
ويقول بيرس أن التدبيرية عند وليم جيمس معناها : أن غاية الانسان هي العمل، بينا يريد هو بمذهبه ان يكون "نظرية في التحليل المنطقي، أو التعريف الصادق" و "إن مزاياه تستعلن خير ماتستعلن عند تطبيقه على اعلى التصورات العقلية " فمذهبه أضيق مجالا وأقل تطرفا من مذهب جيمس ، ولأجل تمييزه  عن سواه من المذاهب التدبيرية ، أطلق عليه اسم (براغماتيسيزم pragmaticism) وترجمته عندي (التدبرية) ، تدبر الأمر: نظر في أدباره، أي نتائجه ومآتيه. إن التدبر خلافا للتدبير، تأكيدا للناحية النظرية، قارن قولنا: تدبرت الأمر، بقولنا دبرت الأمر.

فالتدبرية إذن هي الترجمة المطلوبة للبراغماتيسيزم.

++
هوامش

1- انظر ص 844 من الطبعة الاولى ومعلوم  ان صفحات هذه الطبعة او الطبعة الثانية تذكر عادة في ثنايا الطبعات الاخرى والترجمات المختلفة للكتاب.
2- انظر ص 41-42 من نشرة روزنكرنتس وشوبرت لآثار "كنت" وص 33-34 من ترجمة ابوت الانكليزية لآثار الفيلسوف الاخلاقية.
3- وفي تحديد معنى اللفظ انظر ايضا "نقد العقل العملي" ص 171 روزنكرانتس .....
---------

*صحيفة (الاهالي) الاحد 24 تموز 1960

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق