هذه المدونة خاصة بكتابات المفكر واللغوي والمترجم والأديب العراقي عبد الكريم الناصري

الجمعة، 17 يونيو 2016

الرصافي لم يخطىء: مسألة تعبيرين للرصافي غلطه فيهما الدكتور مصطفى جواد - 1

 بقلم: عبد الكريم الناصري
أذكرتني ذكرى الرصافي السنوية التي مرت منذ وقت قريب شيئا يتصل به ناثرا. وهو تغليط الدكتور مصطفى جواد اياه، في تعبيرين تضمنهما كلام له. وقد ورد الكلام والتغليط في كتيب الاستاذ الفاضل المذكور نشره سنة 1955 وعنوانه (المباحث  اللغوية في العراق) وهو مجموع محاضرات كان ألقاها سنة 1954.
معروف الرصافي
د. مصطفى جواد
وللرصافي نثر، هو على العموم جيد السبك، محكم العبارة ، صحيح اللغة، برىء من التكلف، وعليه في الغالب مسحة من القدم محببة جميلة  الوقع.
وهو، في الكلام المنقول عنه، يتحدث عن جواز اشتقاق ألفاظ جديدة عند الضرورة ، ويقول مامعناه أن عدم السماع عن العرب، لس بحجة في منع الاشتقاق والقياس وذلك من ثلاثة أوجه وهو يورد هذه الأوجه هكذا : " أحدها .. وثانيها .. وثالثها"
وناقده يغلطه في قوله (احدها) ويقول "الصواب: اولها ، لأن الأحد يقابله الآخر"

يلاحظ أولا، أن (صيغة) الاعتراض ليست منطقية، إذ من حق الكاتب من الكتاب، أن يبدأ ذكر وجه من أوجه أحتجاج له بقوله (أحدها) وليس لغيره أن يفرض عليه مكان هذه العبارة ، عبارة (اولها) خصوصا وأن بين العبارتين فرقا في المعنى. ولذلك كان ينبغي أن يصاغ الإعتراض بحيث ينصب على قوله (ثانيها) و(ثالثها) فيقال مثلا "إن الكاتب وقد بدأ فقال (أحدها) كان ينبغي له أن يقول عن الوجهين الباقيين "ووجه آخر، ووجه ثالث" مثلا.
والرصافي رحمه الله ، إنما قال (أحدها) لأنه لو قال (أولها) لجاز أن ينصرف ذهن القارىء الى أنه يورد الوجوه بحسب الأهمية النسبية لكل وجه منها، لأن من شأن لفظ (الأول) ان يصرف الذهن في الغالب الى هذا المعنى، وهو مالم يقصد إليه.

أما أنه قال (وثانيها وثالثهما) ولم يقل (ووجه آخر ووجه آخر، وثالث ) فلأنه إنما جرى في ذلك على عرف قد جرى عليه كتاب العربية ، من قدماء ومتأخرين، من لغويين وبيانيين، نحاة وفلاسفة، ومتكلمين، ومؤرخين، وغيرهم في الشرق والغرب. وهو أنهم إذا أوردوا أدلة ، أو ضروبا من شيء، وما إلى ذلك  قالوا في الأغلب (أحدها.. الثاني .. الثالث..الرابع ) جاعلين من قولهم (أحدها) مجرد (رمز) الى المعنى المذكور – معنى عدم المفاضلة.
وقد بلغ بهم التمسك بهذا العرف أنهم قد يذكرون شيئين فقط، فلا يقولون (أحدهما والاخر) مع سهولة ذلك، بل (أحدهما والثاني).

ذلك على كل حال، اسلوب من التعبير العلمي قد اصطلحوا عليه، منذ زمن بعيد جدا، ومن البديهي أنه لاوجه ولامعنى لتغليط قوم في اصطلاح قد اصطلحوا عليه.
وأنا مجتزىء فيما يلي  - من الشواهد التي تزخر بها الكتب القديمة – بقليل ، ولينظر القارىء من هم المستشهد بهم.

الزمخشري – في المفصل – ص 50 من طبعة مطبعة التقدم بمصر "ثم انك ترى النصب مختارا ولازما، فالمختار في موضعين:  احدهما .. والثاني". ص 67 "المستثنى في إعرابه على خمسة أضرب : أحدها .. والثاني .. والثالث .. والرابع .. والخامس"
عبد الرحمن الأنباري – في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف) – طبعة مطبعة التقدم بمصر: ص 211 – " الجواب عنه من ثلاثة أوجه: احدها ....والوجه الثاني .. والوجه الثالث"

الغزالي في (تهافت الفلاسفة) طبعة دار إحياء الكتب العربية – القاهرة – ص 208 (وقد حصل لها هذا التشبه من وجهين: احدهما .. والثاني..)
ص 209 ( .. ونبطله من وجهين: أحدهما .. والثاني..)

242 ومابعدها (وأما الباطنة يعني القوى الحيوانية الباطنة ، فثلاث: احدها .. والثانية .. وأما الثالثة ..)
عبد القاهر الجرجاني في – دلائل الإعجاز – طبعة مطبعة المنار – ص 176-177 (.. وذلك أن قوله "إن هذا إلا بشر كريم" مشابك بقوله "ماهذا بشرا" ومداخل فيه من ثلاثة أوجه، وجهان هو فيهما شبيه بالتأكد، ووجه هو شبيه بالصفة، فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد .. والوجه الثاني .. أما الوجه الثالث ..)

ابن خلدون – في مقدمته – طبعة مطبعة الكشاف – بيروت – ص 344: " وذلك ان القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للاستيلاء على الأمصار لأمرين : أحدهما .. والثاني ..).
ولأضف الى ماتقدم أن الأحد في مقابلة الآخر، والأول في مقابلة الثاني ، يردان في القسم الاخير من كلام الرصافي، كل في موضعه اللائق به . قال"وإذا كان الإشتقاق هو الأصل، وقد تعارض عندنا في بعض المشتقات دليلان ، أحدهما يقتضي المنع، وهو عدم السماع والآخر يقتضي الجواز، وهو القياس المطرد في نظائره، وجب أن نرجع به الى الأصل، وأن نرجح دليل الجواز على دليل المنع، لأن  الأول مثبت للأصل والثاني نافٍ له.."

الجزء الثاني هنا
++
* نشرت المقالة في (المستقبل) 1962

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق