هذه المدونة خاصة بكتابات المفكر واللغوي والمترجم والأديب العراقي عبد الكريم الناصري

السبت، 4 يونيو 2016

السوق المشترك أم السوق المشتركة ؟

سمع ابنته الكبرى تسأل أمها:
- يمة ليش الجِدِر مرة لو رجال؟ (ترجمتها: أمي وهل القِدِر مؤنث أم مذكر؟)
فكتب هذا الموضوع عن (صدمة) اللغة.

بقلم: عبد الكريم الناصري*
إنا لنقرأ في الصحف عبارة : السوق الأوربية المشتركة. والسوق في لهجة أهل العراق مذكر. وهو تبعا للمعاجم يؤنث ويذكر: أي أن الأعراب، أي عرب البادية ، كانوا، في عصر غابر بعيد يذكرونه ويؤنثونه، أو كان بعضهم يذكره وبعضهم يؤنثه. ولكن هذا إنما هو حقيقة تاريخية، ولا صلة له بما ينبغي لنا من تذكير اللفظ أو تأنيثه.
الذي ينبغي لنا – الذي يفرضه علينا حسّنا اللغوي – إنما هو تذكيره ، لأننا لا نستعمله في لغة الحديث- لغتنا الطبيعية – إلا مذكرا. وليس تذكيرنا إياه في لغة الكتابة بغلط في الصرف أو النحو أو اللغة- وذلك حتى لو لم يكن قد استعمل مذكرا فيما مضى، فكيف وقد استعمل كذلك ؟
وكالسوق: الكأس، والرأس والسن والقدر (بكسر القاف) وامثالها مما كان يؤنث ويذكر، أو يؤنث فقط، ثم اصبح في لهجتا  مذكرا، أو بالعكس.
لقد كانت الألفاظ المذكورة مثلا مؤنثة ثم أصبحت – منذ ما لا أدري من القرون – مذكرة ، فما الداعي الى تأنيثها ؟ ولم يكون تأنيثها – خلافا لما نحسه من كونها مذكرة – هو الصحيح أو الأصح؟
بل  الصحيح تذكيرها فقط.
إني كلما قرأت أمثال عبارة "السوق المشتركة " أو عبارة "هذه الرأس" تذكرت سؤالا ألتقه على أمها ابنتي الكبرى حين كانت طفلة في السنة الثالثة الإبتدائية ، فقد سألتها ذات مساء:

- يمة .. ليش الجدر مرة لو رجال؟
أي هل الجدر بكسر الجيم والدال – أي القدر، إمرأة أم رجل؟ تعني أ مؤنث هو أم مذكر؟ - فإنها لم تكن سمعت بعد بهذين المصطلحين من مصطلحات علم قواعد اللغة.

وإنما سألت هذا السؤال الحائر لأنها لم تكن سمعت اللفظ إلا مذكرا ، في حين أنها قرأت في صباح ذلك اليوم عبارة وردت في كتاب القراءة وهي ولا زلت أذكرها "فلما غلت القدر"
على أن تساؤلها هذا لم تساؤلا بمقدار ماكان احتجاجا من حسها اللغوي السليقي البرىء على هذه الصدمة الفظة التي فوجئت بها.
لابد أن كل واحد منا قد صدم في طفولته مثل هذه الصدمة ، يوم فوجىء بلفظ كلفظ الرأس او السوق مؤنثا، فتساءل في دهشة "ليش الرأس – ليش السوك – مرة لو رجال؟"
على أن تعلمنا لغة الكتابة ليس سوى سلسلة من الصدمات للحس أو الوعي اللغوي، وأين تذكير لفظ أو تأنيثه من التناقض الأكبر بين لغة الحديث ولغة الكتابة. أعني كون الثانية لغة معربة، أي لغة تتغير أواخر الكلمات فيها تبعا للمعنى والسياق، وكون الأولى لغة غير معربة؟
والذي أعتقده أن هذا الفرق الجوهري بين اللغتين لابد أن يزول في يوم من الأيام بتحول لغة الكتابة الى لغة غير معربة. وأنت إذا قارنت بين هذه اللغة على ماكانت عليه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وماهي عليه اليوم (1962) – في الصحف والكتب على السواء – وجدت اتجاه تطورها نحو لغة الحديث، او بالحرى نحو لغة غير معربة قريبة من هذه وهو اتجاه ينبغي لنا الترحيب به لأنه اتجاه من لغة تكاد تكون برانية عنا الى لغة قريبة من لغتنا الطبيعة.

ولا ريب في أن مما يعجل في حركة هذا السياق التطوري المرحب به أن نسايره مسايرة واعية مدركة.. ومن أبسط أمثلة هذه المسايرة وأهونها أن يكون تذكيرنا وتأنيثنا الأسماء موافقا لما هي عليه في لغة الحديث. فإن قلت: فما القول في أن اللفظ من الألفاظ قد يذكر في لهجة عربة ويؤنث في أخرى؟
قلت: عندئذ يذكره أو يؤنثه أصحاب كل لهجة بحسب لهجتهم. ولم لا؟ وأي ضرر في هذا؟ ألم يكن العرب يستعملون بعض الألفاظ كلفظ السوق مذكرا ومؤنثا ، أو يذكره بعضهم ويؤنثه بعضهم الآخر؟ وما القول فيما لا يحصى من الأسماء التي لها أكثر من جمع واحد؟ ومن الأفعال التي لها أكثر من مصدرواحد؟ (1)
على أن هذا المقام المحدود الغرض، ليس هو مقام الكلام في تطور لغة الكتابة مستقبلا.
---------
* تقريبا جريدة (المستقبل) العراقية 1962
(1) الحقيقة أن الفعل لا يمكن ان يكون له سوى – مصدر – حقيقي واحد، وما سؤاه فمشتق وليس مصدرا بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ. مثال ذلك: دار دورا ودورانا. فالدور هو المصدر الحقيقي، اما الدوران فمشتق من الفعل او مادته. والمعنى العام للدور والدوران واحد ولكن الأخير فيه تخصص في الدلالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق